samedi 5 mars 2011

أنا وراديو اليابان لسليم السراي الجزء الاول


أنا وراديو اليابان الدولي – ج 1
لا أعرف كيف أبدأ رسم كلمتي , ورسم الدافع الذي يحدد هويتها وأختيار ألوانها , وكيف أخرج من موضوعاتها دون ترك آثار نسيج من مجون المديح والإثراء تجاه راديو اليابان الدولي  , لأنأى بروح قلمي عن هذه الاستباحة , وبهذا النهج أنفض من يدي , ما قد أحاطت به القلوب التي كتبت إليها 15 عاما وباستمرار , فإن هؤلاء هم الأعلم بالحال , وكيف جعلت من كلمتي ؛ رسالة أفرغت فيها مودة وسلام , حتى أغرم فيها ؛ من أمسى أفقه ينال مشرقي الأرض فأحبها لإنسانيته , أو وجدها جزءا لا يتجزأ من جسد انسانية التي يبذل قصارى جهده من أجلها , فكانت رسائلي على طيف من النقاء والصفاء والفطرة السليمة , لا على منطق الرغبة ؛ قصيرة العمر والمدى 
.
  
ولعل عامل الظرف المكاني الذي أعيش دقائق زمانه في العراق , هو الذي جعل علاقتي تتطور نموها في آفاق جديدة ورحبة , فلم يكن في وقتها لدي من الطموح أن أصل إلى هذا المستوى , لكن ما لدي من إمكانيات تتلاءم مع إنسان تفصل بيني وبينه بحار ومحيطات وسهول وجبال وأفاق وعادات وتقاليد , في حقيقتها دائمة العطاء في هذا الميدان , فمن سعى في هذا الطريق صادقا فقد أصاب طرق الصواب , فكانت العلاقات الإنسانية أقرب إليها من كل الآفاق , علاقة تطوي المسافات الشاسعة وتجعلها كبشارة قوس الأمان يرسل بأطيافه .
   
بيد إن هناك أسباب خاصة جعلتني أفضل الاستماع إلى الإذاعات العالمية , ليس من باب ملء الفراغ , في ظرف كان الوقت قصير الإقامة مع إمكانيات الحياة الصعبة , وأغلب الشعب العراقي في ذلك الوقت من الطبقة المعدومة التي كنت انتمي إليها بشكل عام , لكن حب المعرفة والتعرف على عادات وتقاليد الشعوب الأخرى , أجد فيها رقعة أوسع ومجال أفسح , وهذا العامل المؤثر والمشجع هو الذي جعلني من مريدي الموجة القصيرة , في ظل ظروف ليست بمنأى عن خط اللعب بالنار , وهذا يتمثل في الخوف من المتابعات الأمنية في ذلك الوقت , حيث أن أغلب دول العالم لا تحظى بعلاقات طيبة مع النظام المباد الذي فرض حظرا شاملا على كل ما وراء الحدود مسموعا ومطبوعا من غير علة معروفة ,  واقل  ما  يقال  عن  هذه  الحال ( إذاعة معادية أو مطبوع معادي ).
 
إن أثير راديو اليابان الدولي الموجه يحمل بين طيات أثيره رسالة محبة وسلام إلى الشعوب العربية , ويحاول الوصول إلى الشعوب العربية من خلال مستمعي برامجه , لتحقيق بناء جسور صداقة عابرة كل الفضاءات والمسافات , ويعتبرهم مراسلي الشعب الياباني مباشرة , فالحوار هنا مباشر بين مجتمع وآخر ولا يحتاج إلى بروتوكولات معقدة , ويتبادل المستمع مع إذاعته الموجهة التهاني والأماني السعيدة بالمناسبات الدينية والتاريخية والوطنية , وتجرى لقاءات خاصة من خلال الهاتف لتغطية هذه المناسبات في أحيان كثيرة , وهذا من شأنه تطوير العلاقات والانفتاح ما بين الجميع , ويعطي أنطباعا كبير إلى عمق العلاقات التي أساس مزيجها المودة والاحترام المتبادل , بَيدَ إن من كان في نفسه أدنى شك هلك أوتردى في طريق الخطأ  . 
  
الإذاعات العالمية الموجهة تعمل بمعدل نصف ساعة أو ساعة يوميا فقط , وفي أوقات متفرقة , وهذا ما يجعل عملية الإصغاء أو متابعتها من قبل أي مستمع سلسة , وأيضا فان لكل مستمع برامجه المفضلة , فلا يجب على المستمع الاستماع لجميع البرامج , التي غالبا تكون بمستوى أسبوعي خلاف نشرات الأخبار والتقارير الإخبارية اليومية .
 
كنت مهتما في الاستماع إلى برنامج ( إثارة وتكنولوجيا ) و ( الجريدة الثقافية ) من راديو اليابان الدولي , ويمكن أن توضح لنا هذه البرامج الثقافية العامة عجلة التقدم التكنولوجي والعلمي الذي شهدته وتشهده اليابان , وكنت انقل المعلومات التي استمع إليها إلى أصدقائي في العمل أو من ألتقي بهم ونتبادل شجون الحديث وأخبار الساعة في شتى المجالات , وحينما يوجه لي السؤال عن كيفية حصولي على تلك المعلومات , فأقول إني قرأتها في الجريدة اليومية , لان للحياطين في ذلك الوقت ! آذانا  تستمع إلينا , ضمن خطة زرع عيون المراقبة والاستماع إلى أحاديث الناس في عهد النظام السابق .
   
اعتبرت كل رسالة أرسلها إلى راديو اليابان هي بمثابة عقد من الوفاء ونسخة منه مثبته لدى محكمة الوفاء , فلا ينفك أبدا عقدها مع مرور الزمان إلا مع مغادرة الحياة , لذا وبعد الإطاحة بالنظام وتوقف البريد العادي عن خدماته ؛ أرسلت رسالة بيد أحد الأصدقاء إلى راديو اليابان الدولي من خلال البريد الأردني لأقول لأصدقائي في راديو اليابان " إني ما زلت حيا لم أمت بعد " . فكانت أول رسالة بريدية تصل من العراق إلى اليابان , وبعد أشهر من إسقاط النظام في العراق , أرسلت أول رسالة الكترونية من العراق إلى اليابان , وهكذا كانت علاقتي مزيجا من ملامح أخلاقية وأدبية , التي أخذت تنمو في عوالم تلك الأيام , ومعاني الود تقرع لها أجراس عصا سحرية , فتفجر فيها الطاقات والقدرات لأجل الاستمرار والمتابعة تحت فيء من الود المتبادل .
 
بعد أحداث التاسع من نيسان 2003 بدا نشاطي من خلال التوثيق بالصورة والكلمة, حيث أقتنيت أول كاميرا ديجاتال في حياتي , لأنقل مأساة بلدي بعد سنوات أفلت فيها شمس الحقيقة , التي ما كان لأي إنسان القوة النطق بها أو الإشارة إليها بطرف كلمة أو نظرة تائهة ؛ فللصورة الملونة لغة أبلغ من الكلمة في أحيان كثيرة , وأرسلت الكثير من الصور ذات موضوعات مختلفة لراديو اليابان , وأعتقد إنها كانت تمثل للأصدقاء في اليابان حالة نادرة جدا من ناحية كيفية الحصول عليها , ومنها صور تمثل جلوس التلاميذ على مقاعد الدراسة تحت الهواء الطلق بالرغم من برودة الجو صباحا وارتفاع درجة الحرارة عند إنتصاف النهار , بسبب وجود أعمال ترميم شاملة للمدرسة التي يدرس فيها التلاميذ , لذا وصلني أيميل من الأستاذ يوكي ساكاغامي مدير الخدمة العربية في المؤسسة ؛ وهو يطلب مني التعاون في إرسال مادة خاصة ( فيلم ) قبل خمس من السنوات الماضية , لعرضها في التلفزيون الياباني مع حلول مناسبة الذكرى السنوية السبعين لتأسيس الـ NHK , وهنا وضعتني ألـ NHK أمام عدسة الكاميرا لأول مرة , لأنقل بالصورة جانبا من حياة التلميذ العراقي في تحدي الصعاب والتغلب على أصعب الخيارات , من أجل مواصلة الدراسة تحت ظروف استثنائية , قل نظيرها ؛ في عالم يعيش حياة أخرى قد سبقنا إليها بعمر ناهز ألف عام وعام , وتبرعم في روحي شفق حب التواصل أكثر والتقاط الصورة الاستثنائية في ظرف استثنائي , وبرفقة الكلمة التي أشبعها الزمن صمتا في داخل مدى قلمي .
 
سافرت إلى بغداد في صباح باكر , وأنا أحمل فيلما يحكي رائعة تحدي الصعاب لتلاميذ في عمر الورد , والطريق بين واسط وبغداد لم يكن هو الآخر بالموضوع السهل , حيث مظاهر الذبح على شاطئ ذلك الطريق وعلى الهواء مباشرة , وما أن وصلنا لمشارف مناطق الخطر حتى قرأ كل واحد منا الشهادتين وسورة الفاتحة ترحماً على أرواحنا .
 
كانت ملابس الركاب الأربعة في سيارة التاكسي شبه بالية ولهم فيها مآرب من إضفاء روح الفقر والعوز عليهم  , وقد أوصى كل واحد منهم الآخرين بعذر يخيل له إن ( الذباحين ) سوف ترق قلوبهم له ويتركونه في سبيله .
  
قال احدهم انه يروم الحصول على دواء من بغداد لان والدته مريضة وفي حالة خطيرة  , والآخر ذكر إن ولده الحديث الولادة يرقد في احد مستشفيات بغداد , وكان الركاب الأربعة يتحدثون عن قصص الذبح والتمثيل بالجثث التي تتناقلها ألسن الناس , وقد شاركهم  سائق التاكسي في الحديث وذكر انه القي القبض عليه مرة من قبل تلك الجماعات وانه شاهد كيف يقتل الناس بلا رحمة , إلا إنني لم أشاركهم في الحديث , وما عساني أن أقول ؛ لو تعرضت إلينا إحدى الزمر الإرهابية في الطريق , وأنا احمل فيلما خاصا لا يقبل معه أي عذر أو حديث مغمور بطلب الرحمة والعطف .
 
وما أن وصلنا جسر ديالى المقطّع الأوصال , بعد تجاوز طريق الخطر الذي يتحول فيه الدم إلى رماد , فلا نسمع دقات القلب إلا همسا  , وقد نسي كل واحد منا دفع الأجرة لصاحب التاكسي , وبعد نزولنا وترجلنا عن السيارة عدة أمتار ذكرت لمن كان معي إننا لم ندفع الأجرة , حيث أستغرب السائق عن سبب عودتنا , وحينما علم السبب أعلمنا انه أيضا نسي الأمر , وقال لنا ( وصولكم بالسلامة هو ما كان يشغل فكري ) .
 
دخلت إلى مكتب الـ NHK في بغداد , وكان هناك حديث أختطفت به من كل بستان زهرة مع مراسل التلفزيون , فكانت سعادته كبيرة في وصولي سالما والحصول على هكذا فيلم يحمل أسطورة عراقية حيه , وأبطالها على قيد الحياة .
  
وبعد أن علمت الـ NHK القصة بأكملها , كان من المؤمل تكليفي مرة أخرى في تصوير مشاهد من الحياة الترتيبية للشعب العراقي , بعد عدة مراسلات جرت بيننا , لكن ذكر لي الأستاذ يوكي ساكاغامي قرار الـ NHK  " إن حياة الصديق العراقي في الوقت الحاضر؛ لديها أغلى من الفيلم " .
  
وهنا ذاع أمري بين الأصدقاء أكثر , فقد أنتهى زمن الخوف من المتابعات الأمنية التي لا مبرر لها , ودعاني كل واحد منهم لزيارته ليلا  , وكثيرا ما يأخذنا الحديث إلى ما بعد منتصف الليل حول اليابان وتاريخها , وحملت في جميع زياراتي كتاب تعلّم اللغة اليابانية ومجموعة من صور الحياة الطبيعية في اليابان إضافة إلى بعض النشرات الخاصة بالراديو , واعتبرتها هدية إلى جميع أصدقائي , حتى أستنزفت جميع الكتب والنشرات مع أحتفاظي ببعض الصور والهدايا الخاصة .
 
تطورت علاقتي مع مكتب الـNHK  في بغداد وكنت على اتصال دائم معهم , إضافة إلى بعض الزيارات إلى المكتب وفي آخر زيارة كانت بحضور الأستاذ ( nagao  ) ومعه زميلته في العمل وقد أنتدبا للعمل في بغداد من مقرهما الرئيسي في فرنسا  .
 
وخلال تبادل الحديث حول موضوع الشعر مع مجموعة من الشعراء والمثقفين كل من ( الكاتب والقاص محسن ناصر الكناني , الكاتب والقاص موسى غافل الشطري , الشاعر حسن سالم الدباغ , الكاتب فلاح العكيلي , القاص حيدر غازي , الكاتب والقاص سالم شاهين وغيرهم )  , إن أشعار وقصص الكتاب العراقيين تختلف في رموز ابطالها عن أشعار اليابانيين والتي غالبا ما تكون زهرة الكرز والبحر والشمس موضوعها , وقدمت نسخا مستنسخة إليهم من الأشعار المغناة التي تصلني دوريا من الـ NHK رغبة منهم في الحصول عليها .
 
هذه بعض صوري الناطقة التي تأثرت وأثرت براديو اليابان الدولي , وبكل ما فيها من شروق للألوان وسطوع للأنوار ورفيف الهمسات , تفيض بها حياتي اليومية وهي تتلألأ كالنجوم دون نظرة إعجاب في عين عاشق طال عليه أفول القمر , لأنها بلا شك أصبحت قطعة من طبيعة حياتي اليومية ؛ قد ذللت فيها عنصر الرياء بعيدا عن الأضواء , فالصداقة هي أروع ربيع في الذاكرة , وما ذكرته هنا من كلمات إلا القليل , وما أخفيته يتجاوز مجلد مخافة أن يُحسَبُ على مكاييل المعنويات والماديات , فتطغي هذه المكاييل لمساومة الصداقة وتطوي آثارها .
 
فكان جزاء هذا الوفاء والود المتبادل , هو دعوتي لزيارة اليابان وعلى نفقة الإذاعة , ضمن فعالية خاصة أقامتها بين جميع مستمعيها في العالم الذين يقدر عددهم بـ 12 مليون مستمع ومستمعه . وهذه الدعوة لها معاني ودلالات أعمق من أي معنى تحمله كلمة صامته

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire